سلطان باشا الأطرش - وثائق
 
 
عودة الكلمة التي ألقاها منصور سلطان الأطرش يوم تشييع المرحوم سلطان باشا الأطرش في الملعب البلدي في السويداء وقد كان في التشييع حوالي نصف مليون
تاريخ الوثيقة: الأحد 28 آذار 1982

السيد ممثل رئيس الجمهورية

السادة الضيوف الأكارم

أيها الحفل الكريم

يا جماهير شعبنا العربي.

 

الأب العطوف الرقيق الذي تدمع عيناه لشكوى مظلوم والقائد التاريخي الحكيم، والإنسان العربي المؤمن صاحب القضية. صور لا تنتهي عشتها في السلوك اليومي لوالدي سلطان، وكل من عرفه يروي الكثير، الكثير.

 

اعذروني أيها السادة إذا عجزت الكلمة عن التعبير، فمنذ مطلع هذا القرن عاش وطننا العربي أحداثاً جساماً، وتطورات عاصفة، ومعارك ضاربة، كان لسلطان الأطرش في كل منها مواقف وآراء، والحديث عنها رواية لتاريخنا العربي الحديث. فمن أعماق تاريخ العرب المجيد استمد قائد الثورة إيمانه، ومن صلابة شعبنا والتصاقه بأرضه ونزوعه إلى الحرية صنع سلاحه وبوضوح رؤيته قاد الثورة السورية الكبرى وشق طريق الاستقلال لهذا القطر؛ فكانت معارك الاستقلال خطوات على طريق صنع المستقبل العربي وتحرير شعبنا من كل عبودية. هكذا نطقت بيانات الثورة السورية الكبرى: لن نلقي السلاح حتى تتحقق الوحدة العربية. فالوحدة الوطنية كانت قائمة واستند إليها شعبنا عند تفجير الثورة فتجسدت واقعاً عملياً هزَّ أركان جيوش الاحتلال ودمر أسلحته.

تنظيم الرجال وتفجير الطاقات وتعبئة الشعب ثورة مستمرة خاضها شعبنا ضد جيوش الاحتلال التركي والفرنسي؛ فالقتال لا يهدأ وأرض الوطن محتلة؛ موقف جذري واضح لا يقبل المساومة ولا يعرف اليأس.

الحقيقة بسيطة سهلة التحقيق والمنال إذا خلصت النيّة وصدقت الكلمة واقترنت بالفعل والعمل. والإيمان بالقضية والتضحية في سبيلها يحوّلان الإمكانات المتواضعة قوة لا تُحد، ويجعلان السيف والبندقية قوة ظافرة تقهر جيوش الاحتلال المدججة بأعتى سلاح.

معارك الكفر والمزرعة والمسيفرة والسويداء ورساس والغوطتين وجبل الشيخ وراشيا وغيرها وصفها ووثّقها واعترف بضراوتها العدو قبل الصديق، ودخلت التاريخ أمثلة حية على صدق الرجال واستعدادهم للتضحية في سبيل الحق، وعلى عبقرية القيادة العسكرية والسياسية.

منذ وعيت على سلطان الأطرش وحتى آخر لحظة في حياته كانت هموم الناس وقضايا الوطن همه، وصناعة التاريخ والمستقبل شاغله.

قالها للرئيس الراحل جمال عبد الناصر عند قيام اول خطوة وحدوية في تاريخ العرب الحديث: "لقد قمنا بواجبنا نحو الوطن، والطريق طويل، وحِمْلكم ثقيل، التاريخ معكم والمستقبل لكم".

وقالها الرئيس حافظ الأسد: "لقد قمنا ببعض الواجب تجاه الوطن، والظروف أكثر تعقيداً الآن والأمانة بأيديكم فحافظوا عليها وجاهدوا وناضلوا من اجل انتصارها".

وقال لقادة الثورة الفلسطينية: "ما أُخذ بالسيف، بالسيف يؤخذ".

أيها السادة،

تصدّى سلطان ورفاقه المجاهدون للمنيّة وكأنها أمنية. تحملوا الجوع والظمأ، فراشهم الأديم وغطاؤهم سماء الصحراء سنوات طويلة ولم يخضعوا ولم يستسلموا، وخلّفوا لهذا الوطن عزة وفخار، ولهذه الأمة مدرسة كبرى في النضال تضرب جذورها في أعماق الشعب وتاريخه وتمتد بآفاقها لتحتضن قضايا العروبة ولتوفر لها سبل النجاح والنصر.

النكسات والهزائم لا تثني الثوار عن متابعة النضال بل تدفعهم للثبات والتصميم وتعميق الرؤية وفهم الظروف والإيمان بالشعب. كذلك كان موقفه من هزيمة العرب في حزيران 1967. وصدق قوله، فمن واقع الهزيمة ولد القرار الذي قلب الهزيمة نصراً وبمستوى جرأة وإيمان صاحب القرار الرئيس الأسد كانت معارك تشرين نقطة تحول في مسار الصراع العربي-الصهيوني.

تحرير فلسطين كان قضيته ودعم المقاومة الفلسطينية وحق شعب فلسطين في استخدام جميع الوسائل لتحرير أرضه واجباً يفرضه التاريخ وتقتضيه ضرورات المصير العربي. مساندة نضال أهلنا عرب الأراضي المحتلة في الجولان وغزة والضفة الغربية بكل إمكانياتنا واجب وجزء من مهماتنا التي إن قَصرّنا بها فرّطنا بالوطن ومستقبله.

أيها السادة،

البطولة لم تكن أسطورة بل كانت واقعاً صُنِع بالصبر والجَلَد والمعاناة. ومعارك البطولة التي سطّرها التاريخ صفحاتٍ ناصعة لم تروَ مرة على لسان قائدها الفارس العربي سلطان الأطرش إلا وكان لرفاق الجهاد، شهداء الوطن الدور الأول في الصمود وتحقيق النصر: الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، إبراهيم هنانو، صالح العلي، حمد البربور، معذى المغوش وغيرهم كثيرون.

أسماء بقيت تتردد على لسان الفقيد الراحل إلى آخر لحظات حياته الطاهرة. رحم الله الفقيد ورفاقه الشهداء المجاهدين فقد قدموا المثل والقدوة، وقدموا للوطن كل ما استطاعوا، فيا رفاق سلطان، يا إخوته في الجهاد، يا أبناء وأحفاد رفاق سلطان، إن لساني ليعجز عن الإجابة على وفائكم وحبكم وتعلقكم بالفقيد الراحل وبالمثل والمبادئ التي عاش من أجلها إيماناً وسلوكاً وعملاً...

ففي المعارك صدق وجرأة وتضحية وبطولات وفي حياته حب وتقدير وإكبار، وفي مرضه لهفة وقلق وفي مأتمه حزن وأسى يفوق كل الوصف. إن لكم جميعاً شكرنا العميق.

ونعاهد الله ونعاهدكم أن تظل المثل والقيم والمبادئ التي عاشها فقيدنا حيّة في القلب والعقل والعمل.

 

أيها السادة،

 

اليد التي أنزلت علم الاستعمار التركي ورفعت العلم العربي على سرايا المرجة بدمشق، واليد التي أنزلت علم الاستعمار الفرنسي ورفعت علم الاستقلال، بقيت تتلمس الطريق للحفاظ على الوحدة الوطنية وعلى تدعيمها، فهي السلاح المجرب الذي هزم الاستعمار ونكس راياته. وقد بذل الفقيد في سبيل هذه الوحدة كل ما استطاع طيلة حياته وكانت وصيته التي أكد عليها وحمّلها مسؤولية لكل مواطن.

وعلى فراش مرضه التقى قائد الثورة السورية الكبرى بالرئيس حافظ الأسد بطل تشرين وكان حديث التاريخ... فالمسؤولية الوطنية والقومية أمانة تسلمتها يد لا تعرف التراخي... وقائد لا يعرف التراجع والاستسلام أمام هجمات الطامعين ومؤامراتهم، مصمم على مواصلة النضال لتحرير الأرض وتحقيق الأماني القومية.

 

أيها السادة،

 

يا جماهير شعبنا العربي العظيم،

أرى من واجبي أن أنقل إليكم بعض ما جاء في وصية فقيدنا الراحل الموجهة إلى كل مواطن عربي:

 

 

 

"بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

إخواني وأبنائي العرب.

 

عزمت وأنا في أيامي الأخيرة أنتظر الموت الحق أن أخاطبكم مودعاً وموصياً:

 

لقد أولتني هذه الأمة قيادة الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم فنهضت بأمانة القيادة وطلبت الشهادة وأديت الأمانة.

 

انطلقت الثورة من الجبل الأشم، جبل العرب لتشمل وتعم وكان شعارها: الدين لله والوطن للجميع. وأعتقد أنها حققت لكم عزةً وفخاراً وللاستعمار ذلاً وانكساراً.

 

وصيتي لكم إخوتي وأبنائي العرب هي:

 

إن أمامكم طريقاً طويلة ومشقة شديدة تحتاج إلى جهاد وجهاد. جهاد مع النفس وجهاد مع العدو فاصبروا صبر الأحرار ولتكن وحدتكم الوطنية وقوة إيمانكم وتراص صفوفكم هي سبيلكم لرد كيد الأعداء وطرد الغاصبين وتحرير الأرض.

 

واعلموا أن الحفاظ على الاستقلال أمانة في أعناقكم بعد أن مات من أجله العديد من الشهداء وسالت للوصول إليه الكثير من الدماء.

 

واعلموا أن وحدة العرب هي المنعة والقوة وأنها حلم الأجيال وطريق الخلاص. واعلموا أن ما أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ وأن الإيمان أقوى من كل سلاح وأن كأس الحنظل في العز أشهى من ماء الحياة مع الذل، وأن الإيمان يشحن بالصبر ويحفظ بالعدل ويعزز باليقين ويقوّى بالجهاد.

 

عودوا إلى تاريخكم الحافل بالبطولات، الزاخر بالأمجاد لأني لم أر أقوى تأثيراً في النفوس من قراءة التاريخ لتنبيه الشعور وإيقاظ الهمم لاستنهاض الشعوب فتظفر بحريتها وتحقق وحدتها وترفع أعلام النصر. واعلموا أن التقوى لله والحب للأرض وأن الحق منتصر وأن الشرف بالحفاظ على الخلق وأن الاعتزاز بالحرية والفخر بالكرامة وأن النهوض بالعلم والعمل، وأن الأمن بالعدل، وأن بالتعاون قوة.

 

الحمد لله ثم الحمد لله.

 

لقد أعطاني عمراً فقضيته جهاداً وأمضيته زهداً ثبتني وهداني وأعانني بإخواني، أسأله المغفرة وبه المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل.

 

أما ما خلّفته من رزق ومال فهو جهد فلاح متواضع تحكمه قواعد الشريعة السمحاء.

 

سلطان الأطرش

 

القريّا آذار 1982

 

                                   

 

 

أيها السادة

 

كلمات الفقيد الأخيرة بسيطة موجزة كعادته، عميقة تزخر بالصدق والإيمان كعهده، تتحدى هممنا أن تفهم الكلمة ولا تكون إلا فكراً ودليل عمل. فباسم جماهير جبل العرب الأشم التي هبّت تتبادل التعازي وباسم المناضلين العرب أعاهد الفقيد على متابعة النضال لتبقى مبادئه ومثله حيّة مورقة ولتطمئن أرواح الشهداء الذين شقوا بدمائهم طريق الحرية والاستقلال.

 

أيها السادة،

 

من لا يحزن يوم موت البطل؟ البارحة تبدد الحزن من النفوس وأشرقت الثقة على وجوه المعزين عندما حضر فجأة السيد الرئيس حافظ الأسد ليلقي نظرة الوداع على جثمان الفقيد. وقد أعادتنا كلماته بصدقها وبساطتها وحرارة الأخوة فيها وعمق دلالتها إلى وعي أنفسنا ساعة الشدة: فإن مات البطل ما ماتت رسالته وإن فني الجسد خلدت الروح. خاطبنا قائلاً: "ما جئت معزياً ولكن مودعاً سلطاناً في بيته. جئت إلى بيتي نشاركه العزاء إذن ونقول له: إن ما بيننا وبينه من روابط الأخوة تبقى متينة يرسخها الصدق والوفاء"... والوفاء شيمة فيه وفينا.

باسم أهلي، عنيت بهم رفاق سلطان وأبناء وأحفاد شهداء الثورة السورية الكبرى الذين جددوا العهد لذكراه والذين يسيرون على خطاه (وإنني لأرى الدرب وأعي مسؤولية التاريخ)، باسمهم جميعاً أشكر الملوك والرؤساء العرب وجميع الرسميين من داخل القطر وخارجه الذين شاركونا العزاء. وأشكر جميع الوفود الحزبية والشعبية التي جاءت من لبنان والأردن وفلسطين وجميع محافظات القطر العربي السوري متجشمة مشاق الحضور لمشاركتنا تشييع الفقيد الكبير. ولا يفوتني أن أحيي وقفة أهلنا في الجولان ففي مقارعتهم لقوى الاحتلال خير إحياء لمثل وسيرة سلطان الأطرش.

وإنا لله وإنا إليه لراجعون

 

منصور سلطان الأطرش

الأحد 28 آذار 1982

 

الصفحة الرئيسية
لماذا هذا الموقع
السيرة الذاتية
بيان إلى السلاح
أهم المعارك
وصية سلطان باشا الأطرش
مقالات
في عيون الشعر
وثائق
تسجيلات
معرض الصور
أهم المراجع